فصل: السنة الأولى من ولاية علي بن يحيى الأولى على مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة الأولى من ولاية علي بن يحيى الأولى على مصر

وهي سنة ست وعشرين ومائتين‏.‏

فيها في جمادى الأولى أمطر أهل تيماء بردًا كالبيض قتل منهم ثلاثمائة وأربعين نفسًا قاله ابن حبيب الهاشمي ثم قال‏:‏ ونظروا إلى أثر قدم طوله ذراع ومن الخطوة إلى الخطوة نحو خمسة أذرع وسمعوا صوتًا يقول‏:‏ أرحم عبادك اعف عن عبادك‏.‏

وفيها منع المعتصم الأفشين من الطعام والشراب حتى مات ثم أخرج وصلب في شعبان‏.‏

والأفشين اسمه حيدر بن كاوس وهو من أولاد الأكاسرة والأفشين لقب لمن ملك مدينة أشروسنة وقد تقدم ذكر وروده إلى الديار المصرية وقتاله مع القيسية واليمانية ثم قتاله بالشرق مع مازيار وغيره وذكرنا أيضًا سبب القبض عليه في حوادث سنة خمس وعشرين وفيها توفيت عنان جارية الناطفي‏.‏

كانت من مولدات المدينة وكانت جميلة شاعرة فصيحة سريعة الجواب بلغ الرشيد خبرها فاستعرضها فقال مولاها‏:‏ ما أبيعها إلا بمائة ألف درهم فردها الرشيد فتصدق مولاها الناطفي بثلاثين ألف درهم‏.‏

وبعد موت الناطفي بيعت بمائة ألف درهم وخمسين ألف درهم وماتت بخراسان‏.‏

وأخبارها ومجرياتها مع أبي نواس وغيره من الشعراء مشهورة‏.‏

وفيها توفي مازيار واسمه محمد بن قارن الأمير صاحب طبرستان‏.‏

كان مباينًا لعبد الله بن طاهر وكان الأفشين كذلك فكان الأفشين يحسن إليه ويحمله على خلاف الخليفة المعتصم ولا زاد به حتى خالف وحارب عساكر الخليفة وعبد الله بن طاهر غير مرة ووقع له أمور وأبلى المسلمين ببلايا وأباد الناس إلى أن ظفر به وأحضر بين يدي الخليفة المعتصم فأمر به المعتصم فضرب أربعمائة وخمسين سوطًا فمات من ساعته تحت العقوبة عطشًا وكان معدودًا من الشجعان‏.‏

‏"‏ ومازيار بفتح الميم وبعد الألف زاي مفتوحة وياء مثناة من تحت مشددة وبعد الألف راء مهملة ‏"‏‏.‏

وفيها توفي محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول أبو الهذيل العلاف البصري مولى لعبد القيس كان شيخ المعتزلة وصنف الكتب في مذهبهم ولد سنة خمس وثلاثين ومائة‏.‏

وقدم بغداد وناظر العلماء وأبادهم وكان خبيث اللسان‏.‏

وفيها توفي يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن الحافظ أبو زكريا التميمي المنقري الحنظلي النيسابوري الزاهد العابد الورع كان إمام أهل نيسابور وحافظها في زمانه وأخرج عنه البخاري في مواضع واتفقوا على ثقته وصدقه‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي إسحاق بن محمد الفروي وإسماعيل بن أبي أوس وجندل بن والق وسعيد بن كثير بن عفير وعياش بن الوليد الرقام وغسان بن الربيع الموصلي ومحمد بن مقاتل المروزي ويحيى بن يحيى التميمي النيسابوري‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعًا وستة أصابع‏.‏

السنة الثانية من ولاية علي بن يحيى على مصر وهي سنة سبع وعشرين ومائتين‏.‏

فيها خرج بفلسطين المبرقع أبو حرب اليماني الذي زعم أنه السفياني فدعا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أولًا إلى أن قويت شوكته فادعى النبؤة‏.‏

وكان سبب خروجه أن جنديًا أراد النزول في داره فمانعته زوجته فضربها الجندي بسوط فأثر في ذراعها فلما جاء المبرقع شكت إليه فذهب إلى الجندي فقتله وهرب ولبس برقعًا لئلا يعرف ونزل جبال الغور مبرقعًا وحث الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاستجاب له قوم من فلاحي القرى وقوي أمره فسار لحربه رجاء الحضاري أحد قواد المعتصم في ألف فارس وأتاه فوجده في مائة ألف فعسكر بإزائه ولم يجسر على لقائه‏.‏

فلما كان أوان الزراعة تفرق أكثر أصحابه في فلاحتهم وبقي في نحو الألفين فواقعه عند ذلك رجاء الحضاري المذكور وأسره وحبسه حتى مات خنقًا في آخر هذه السنة‏.‏

وكان المبرقع بطلًا شجاعًا‏.‏

وفيها بعث المعتصم على دمشق الأمير أبا المغيث الرافقي فخرجت عليه طائفة من قيس لكونه أخذ منهم خمسة عشر نفسًا فصلبهم فجهز إليهم أبو المغيث جيشًا فهزموه وزحفوا على دمشق فتحصن بها أبو المغيث ووقع حصار شديد ومات المعتصم والأمر على ذلك فاستمر في الحصار إلى أن كتب الواثق إلى رجاء الحضاري أن يتوجه إلى دمشق ممدًا لأبي المغيث فقدم دمشق وحارب القيسية حتى هزمهم وقتل منهم ألفًا وخمسمائة وقتل من الأجناد ثلاثمائة‏.‏

وفيها في تاسع عشر شهر ربيع الأول بويع هارون الواثق بالخلافة بعد موت أبيه محمد المعتصم‏.‏

وفيها توفي بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان ابن عبد الله الزاهد الورع أبو نصر المعروف ببشر الحافي كان أصله من أبناء الرؤساء بخراسان فتزهد وصحب الجنيد ومولده بمرو سنة خمسين ومائة وسكن بغداد وتزهد حتى فاق أهل عصره وسمع الحديث من مالك بن أنس والفضيل بن عياض وحماد بن زيد وشريك وعبد الله بن المبارك وغيرهم وروى عنه جماعة منهم أحمد الدورقي ومحمد بن يوسف الجوهري وسري السقطي وخلق غيرهم‏.‏

قال أبو بكر المروزي‏:‏ سمعت بشرًا يقول‏:‏ الجوع يصفي الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق‏.‏

وقال أبو بكر بن عفان‏:‏ سمعت بشر بن الحارث يقول‏:‏ إني لأشتهي شواء منذ أربعين سنة ما صفا لي درهمه‏.‏

وعن المأمون قال‏:‏ ما بقي أحد نستحي منه غير بشر بن الحارث‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ لو كان بشر بن الحارث تزوج لتم أمره‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ ما أخرجت بغداد أتم عقلًا من بشر ولا أحفظ للسانه كأن في كل شعرة منه عقلًا‏.‏

وعن بشر قال‏:‏ المتقلب في جوعه كالمتشحط فى دمه في سبيل الله‏.‏

وعنه قال‏:‏ شاطر سخي أحب إلى الله من صوفي بخيل‏.‏

وعنه قال‏:‏ لا أفلح من ألف أفخاذ النساء‏.‏

وعنه قال‏:‏ إذا أعجبك الكلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم‏.‏

وكانت وفاة بشر في يوم الأربعاء حادي عشر شهر ربيع الأول‏.‏

وفيها توفيت فاطمة جارية المعتصم وتدعى بعريب‏.‏

كانت فائقة الجمال بارعة في الغناء وفيها توفي أمير المؤمنين المعتصم بالله محمد وكنيته أبو إسحاق ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدي محمد ابن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي الخليفة الثالث من أولاد هارون الرشيد بويع الخلافة بعد موت أخيه عبد الله المأمون في شهر رجب سنة ثمان عشرة ومائتين ومولده سنة ثمانين ومائة وأمه أم ولد اسمها ماردة وكان أميًا عاريًا من كل علم‏.‏

وعن محمد الهاشمي قال‏:‏ كان مع المعتصم غلام في الكتاب يتعلم معه فمات الغلام فقال له الرشيد أبوه‏:‏ يا محمد مات غلامك‏!‏ قال‏:‏ نعم يا سيدي واستراح من الكتاب فقال‏:‏ وإن الكتاب ليبلغ منك هذا‏!‏ دعوه لا تعلموه قال‏:‏ فكان يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة‏.‏

وكان المعتصم مع ذلك فصيحًا مهيبًا عالي الهمة شجاعًا مقدامًا حتى قيل‏:‏ إنه كان أهيب خلفاء بني العباس إلا أنه سار على سيرة أخيه المأمون في امتحان العلماء بخلق القرآن وكان يدعى الثماني لأنه ولد سنة ثمانين ومائة في شهر رمضان ورمضان بعد ثمانية أشهر من السنة وملك لثمان عشرة ليلة من شهر رجب وهو الثامن من خلفاء بني العباس وفتح ثمانية فتوح وكان عمره ثمانًا وأربعين سنة وخلافته ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام وخلف من الولد ثمانية بنين وثماني بنات وخفف من العين ثمانية آلاف ألف دينار ومثلها دراهم وقيل‏:‏ ثمانمائة ألف درهم ومن الخيول ثمانين ألف فرس ومن الجمال ثمانين ألف جمل وبغل ودابة وثمانين ألف خيمة وثمانية آلاف عبد ‏"‏ أعني مماليك ‏"‏ وقيل‏:‏ ثمانية عشر ألفًا وثمانية آلاف جارية وعمر من القصور ثمانية‏.‏

وقال نفطويه‏:‏ وحدثت أنه كان من أشد الناس بطشًا يعني المعتصم وأنه جعل يد رجل بين إصبعيه فكسرها‏.‏

وكانت وفاته في يوم الخميس تاسع عشر ربيع الأول وتخلف من بعده ابنه هارون الواثق‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعًا وتسعة أصابع‏.‏

M0لنة الثالثة من ولاية علي بن يحيى على مصر وهي سنة ثمان وعشرين ومائتين‏.‏

فيها استخلف الخليفة هارون الواثق على السلطنة أشناس الذي كان أمر مصر إليه يولي فيها من اختار وألبسه وشاحين بجوهر‏.‏

وفيها وقعت قطعة من جبل العقبة قتل تحتها جماعة من الحاج‏.‏

وفيها توفي عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله بن معمر الحافظ أبو عبد الرحمن التيمي ويعرف بابن عائشة وهو من ولد عائشة بنت طلحة قدم بغداد وحدث بها وكان فاضلًا أديبًا حسن الخلق ورعًا عارفًا بأيام الناس وكان مع هذه الفضيلة شديد القوة يمسك بيمينه ويساره شاتين إلى أن تنسلخا وابن عائشة هو الذي ضربه المأمون فخرج منه ريح فقال فيه أبو نواس تلك الأبيات المشهورة‏.‏

وفيها توفي عبد الملك بن عبد العزيز الحافظ أبو نصر التمار كان إمامًا عالمًا صدوقًا زاهدًا إلا أنه كان ممن أجاب في المحنة فنهى الإمام أحمد لهذا المعنى ‏"‏ عن ‏"‏ الأخذ عنه‏.‏

وفيها توفي محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب العتبي البصري صاحب النوادر والآداب والأشعار والأخبار والطرائف والملح والتصانيف وذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف وابن المنجم في كتاب التاريخ‏.‏

ومن شعره‏:‏ ‏"‏ الطويل ‏"‏ رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر وكن إذا أبصرنني أو سمعنني خرجن فرقعن الكوى بالمحاجر فإن عطفت عني أعنة أعين نظرن بأحداق المها والجآذر فإني من قوم كريم ثناؤهم لأقدامهم صيغت رؤوس المنابر خلائف في الإسلام في الشرك قادة بهم وإليهم فخر كل مفاخر أضحت بخدي للدموع رسوم أسفًا عليك وفي الفؤاد كلوم والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم وفيها توفي محمد بن مصعب أبو جعفر البغدادي كان أحد العباد الزهاد والقراء أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل ووصفه بالسنة‏.‏

وفيها توفي يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحافظ الإمام أبو زكريا الكوفي كان أحد الحفاظ الرحالين وكان يحفظ عشرة آلاف حديث يسردها سردًا وكانت وفاته بمدينة سامرا في شهر رمضان‏.‏

وفيها توفي نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث بن همام الخزاعي المروزي صاحب عبد الله بن المبارك كان أعلم الناس بالفرائض وهو من الرحالة في طلب الحديث‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أحمد بن شبويه المروزي وأحمد بن محمد بن أيوب صاحب المغازي وأحمد بن عمران الأخنس وإسحاق بن بشر الكاهلي الكوفي وبشار بن موسى الخفاف وحاجب بن الوليد الأعور وحماد بن مالك الحرستاني وداود بن عمرو الضبي وعبد الله بن سوار بن عبد الله العنبري القاضي وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبي وعبد الرحمن بن المبارك وأبو نصر عبد الملك بن عبد العزيز التمار وعلي بن عثام الكوفي وأبو الجهم صاحب الجزء ومحمد بن جعفر الوركاني ومحمد بن حسان السمتي وأبو يعلى محمد بن الصلت التوزي والعتبي الإخباري ومحمد بن عبد الله ومحمد بن عمران بن أبي ليلى والمثنى بن معاذ العنبري ومسدد ونعيم بن الهيصم ويحيى الحماني‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان وعشرة أصابع مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعًا وستة أصابع‏.‏

ولاية عيسى بن منصور الثانية على مصر هو عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافقي وليها ثانيًا بعد عزل علي بن يحيى الأرمني من قبل الأمير أشناس التركي المعتصمي على الصلاة ودخل إلى مصر في يوم الجمعة لسبع خلون من محرم سنة تسع وعشرين ومائتين وسكن العسكر على عادة أمراء مصر في الدولة العباسية وجعل على الشرطة ابنه ومفد أمور مصر ودام بها إلى أن توفي الأمير أشناس التركي المعتصمي عامل مصر من قبل الخليفة - وهو الذي كان إليه أمور مصر يولي عليها من شاء من الأمراء - في سنة ثلاثين ومائتين‏.‏

وولى الخليفة مكانه على مصر الأمير إيتاخ‏.‏

وكانت ولما ولى إيتاخ التركي مصر أقر عيسى بن منصور هذا على عمله فاستمر عيسى بمصر على إمرتها نيابة عن إيتاخ إلى أن مات الخليفة هارون الواثق في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وبويع بالخلافة من بعده أخوه المتوكل على الله جعفر فأرسل إلى عيسى هذا ‏"‏ بأن ‏"‏ يأخذ البيعة له على المصريين‏.‏

ثم صرفه بعد ذلك في النصف من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين بالأمير هرثمة وقدم مصر علي بن مهرويه خليفة هرثمة على الصلاة‏.‏

فلم تطل أيام عيسى بن منصور هذا بعد عزله على إمرة مصر ومرض ولزم الفراش حتى مات في قبة الهواء بمصر في حادي عشر شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلاثين المذكورة‏.‏

رحمه الله‏.‏

وكان أميرًا جليلًا عارفًا عاقلًا مدبرًا سيوسًا ولي الأعمال الجليلة وطالت أيامه في السعادة‏.‏

وهو ممن ولي إمرة مصر أولًا عن الخليفة والثانية عن الأمير أشناس التركي فكانت ولايته على مصر أربع سنين وثلاثة أشهر وثمانية عشر يومًا‏.‏

السنة الأولى من ولاية عيسى بن منصور الثانية على مصر وهي سنة تسع وعشرين ومائتين‏.‏

فيها صادر الخليفة الواثق بالله هارون ‏"‏ كتاب ‏"‏ الدواوين وسجنهم وضرب أحمد بن إسرائيل ألف سوط وأخذ منه ثمانين ألف دينار وأخذ من سليمان بن وهب كاتب الأمير إيتاخ الذي أمر مصر راجع إليه أربعمائة ألف دينار وأخذ من أحمد بن الخصيب وكاتبه ألف ألف دينار فيقال‏:‏ إن هارون الواثق أخذ من الكتاب في هذه النوبة ألفي ألف دينار وكان متولي هذه المصادرات الأمير إسحاق بن يحيى صاحب حرس الواثق‏.‏

وفيها ولى الخليفة هارون الواثق الأمير إيتاخ اليمن مضافًا إلى مصر فبعث إليها إيتاخ نوابه‏.‏

وفيها ولى الواثق محمد بن صالح إمرة المدينة وولى محمد بن يزيد الحلبي الحنفي قضاء الشرقية‏.‏

وفيها توفي خلف بن هشام بن ثعلبة أبو محمد البزاز البغدادي المقرىء كان إمامًا عالمًا له قراءة اختارها وقرأ بها وكان قد قرأ على مسلم صاحب حمزة وسمع مالكًا وأبا عوانة وأبا شهاب عبد ربه الخياط وجماعة وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وموسى بن هارون وإدريس بن عبد الكريم الحداد وجماعة أخر‏.‏

قال حمدان بن هانىء المقرىء‏:‏ سمعت خلفًا البزاز يقول‏:‏ أشكل علي باب من النحو فأنفقت ثمانين ألف درهم حتى حذقته‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أحمد بن شبيب الحبطي وإسماعيل بن عبد الله بن زرارة الرقي وثابت بن موسى العابد وخالد بن هياج الهروي وخلف بن هشام البزار وأبو مكيس الذي زعم أنه سمع من أنس وأبو نعيم ضرار بن صرد وعبد العزيز بن عثمان المروزي وعمار بن نصر وعمر بن خالد الحراني نزيل مصر ومحمد بن معاوية النيسابوري ونعيم بن حماد الخزاعي ويحيى بن عبدويه صاحب شعبة ويزيد بن صالح النيسابوري‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعًا وتسعة أصابع‏.‏

السنة الثانية من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهي سنة ثلاثين ومائتين‏.‏

فيها عاثت الأعراب حول المدينة فسار لحربهم الأمير بغا الكبير فدوخهم وأسر وقتل فيهم - وكان قد حاربهم حماد بن جرير الطبري القائد فقتل هو وعامة أصحابه - واستباحوا عسكرهم وحبس بغا منهم في القيود بالمدينة نحو ألف نفس فنقبوا الحبس فأخبرت بهم امرأة فأحاط بهم أهل المدينة وحصروهم يومين ثم برزوا للقتال بكرة الثالث وكان مقدمهم لا بد من زحم وإن ضاق الباب إني أنا عزيزة بن قطاب للموت خير للفتى من العاب وكان قد فك قيده وصار يقاتل به يومه إلى أن قتل وصلب وقتلت عامة بني سليم وقتل جماعة كثيرة من الأعراب‏.‏

وفيها توفي محمد بن سعد الإمام أبو عبد الله مولى بني هاشم وهو كاتب الواقدي صاحب الطبقات والسير وأيام الناس كان إمامًا فاضلًا عالمًا حسن التصانيف صنف كتابًا كبيرًا في طبقات الصحابة والتابعين والعلماء إلى وقته‏.‏

قلت‏:‏ ونقلنا عنه كثيرًا في ‏"‏ هذا ‏"‏ الكتاب رحمه الله تعالى‏.‏

روى عنه خلائق لا تحصى و وثقه غالب الحفاظ إلا يحيى بن معين‏.‏

وفيها توفي محمد بن يزداد بن سويد المروزي أحد كتاب المأمون ووزرائه كان إمامًا كاتبًا فاضلًا مات بسر من رأى في شهر ربيع الأول بعد ما لزم داره سنين‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أحمد بن جميل المروزي وأحمد بن جناب المصيصي وإبراهيم بن إسحاق الضبي وإسحاق بن إسماعيل الطالقاني وإسماعيل بن عيسى العطار وسعيد بن عمرو الأشعثي وسعيد بن محمد الجرمي وعبد الله بن طاهر الأمير وعبد العزيز بن يحيى المدني فزيل نيسابور وعلي بن الجعد وعلي بن محمد الطنافسي وعون بن سلام الكوفي ومحمد بن إسماعيل بن أبي سمينة ومحمد بن سعد كاتب الواقدي ومحبوب بن موسى الأنطاكي ومهدي بن جعفر الرملي‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعًا وتسعة أصابع‏.‏

M0لنة الثالثة من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهي سنة إحدى وثلاثين ومائتين‏.‏

فيها ورد كتاب الخليفة هارون الواثق إلى الأعمال بامتحان العلماء بخلق القرآن وكان قد منع أبوه المعتصم ذلك فامتحن الناس ثانيًا بخلق القرآن‏.‏

ودام هذا البلاء بالناس إلى أن مات الواثق وبويع المتوكل جعفر بالخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين فرفع المتوكل المحنة ونشر السنة‏.‏

وفيها كان الفداء فافتك هارون الواثق من طاغية الروم أربعة آلاف وستمائة أسير ولم يقع قبل ذلك فداء بين المسلمين والروم من منذ سبع وثلاثين سنة‏.‏

فقال ابن أبي عواد‏:‏ من قال من الأسارى‏:‏ القرآن مخلوق فأطلقوه وأعطوه دينارًا ومن امتنع فدعوه في الأسر‏.‏

قلت‏:‏ ما أظن الجميع إلا أجابوا‏.‏

وفيها ولى الواثق جعفر بن دينار اليمن فخرج إليها في شعبان في أربعة آلاف وقيل‏:‏ في ستة آلاف فارس‏.‏

وفيها ولى الواثق إسحاق بن إبراهيم بن أبي حفصة على اليمامة والبحرين وطريق مكة مما يلي البصرة‏.‏

وفيها رأى الواثق في المنام أنه فتح سد يأجوج ومأجوج فانتبه فزعًا وبعث إلى السد سلامًا الترجمان‏.‏

وفيها توفي أحمد بن حاتم الإمام أبو نصر النحوي كان إمامًا فاضلًا أديبًا صنف كتبًا كثيرة‏:‏ منها كتاب الشجر والنبات والزرع‏.‏

وفيها توفي علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني الشيخ الإمام أبو الحسن كان إمامًا عالمًا حافظًا ثقة وهو صاحب التاريخ وتاريخه أحسن التواريخ وعنه أخذ الناس تواريخهم‏.‏

وفيها توفي محمد بن سلام بن عبد الله بن سلام الإمام أبو عبد الله البصري مولى قدامة بن مظعون وهو مصنف كتاب ‏"‏ طبقات الشعراء ‏"‏ وكان من أهل العلم والفضل والأدب‏.‏

وفيها توفي محمد بن يحيى بن حمزة قاضي دمشق وابن قاضيها ولي قضاءها مدة خلافة المأمون وبعض خلافة المعتصم ثم عزل وكان إمامًا عالمًا متبحرًا في العلوم‏.‏

وفيها توفي مخارق المغني المطرب أبوالمهنأ كان إمام عصره في فن الغناء كان الرشيد يجعل بينه وبين مغنيه ستارة إلى أن غناه مخارق هذا فرفع الستارة وقال له‏:‏ يا غلام إلى ها هنا فأقعده معه على السرير وأعطاه ثلاثين ألف درهم وكان في مجلس الرشيد يوم ذاك ابن جامع المغني وغيره‏.‏

قلت‏:‏ ولا تنسى إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق بن إبراهيم فإنهما كانا في رتبة لم ينلها غيرهما في العود والغناء إلا أن مخارقًا هذا كان في طريق آخر في التأدي والجميع كان غناؤهم غير الموسيقى الآن‏.‏

وقد بينا ذلك في غير هذا المحل في مصنف لطيف‏.‏

ثم اتصل مخارق بالمأمون وقدم معه لدمشق وكان مخارق يضرب بجودة غنائه المثل وكانت وفاته بمدينة سر من رأى‏.‏

وفيها توفي يوسف بن يحيى الفقيه العالم أبو يعقوب البويطي وبويط‏:‏ قرية‏.‏

قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ ما رأيت أحدًا أبرع بحجة من كتاب الله مثل البويطي والبويطي لساني‏.‏

ولما مات الشافعي تنازع محمد بن عبد الحكم والبويطي في الجلوس موضع الشافعي حتى شهد الحميدي على الشافعي أنه قال‏:‏ البويطي أحق بمجلسي من غيره فأجلسوه مكانه‏.‏

وأخبره الشافعي أنه يمتحن ويموت في الحديد فكان كما قال‏.‏

وفيها توفي أبو تمام الطائي حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس الخوارزمي الجاسمي الشاعر المشهور حامل لواء الشعراء في عصره كان أبوه نصرانيًا فأسلم هو ومدح الخلفاء والأعيان وسار شعره شرقًا وغربًا‏.‏

وهو الذي جمع الحماسة وكان أسمر طويلًا فصيحًا حلو الكلام فيه تمتمة يسيرة ولد سنة تسعين ومائة أو قبلها‏.‏

ومن شعره ينعت سيفًا‏:‏ ‏"‏ البسيط ‏"‏ السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لاسود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب ولما مات رثاه الحسن بن وهب بقوله‏:‏ ‏"‏ الكامل ‏"‏ فجع القريض بخاتم الشعراء وغدير روضتها حبيب الطائي ماتا معًا فتجاورا في حفرة وكذاك كانا قبل في الأحياء ورثاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم يوم ذاك بقوله‏:‏ ‏"‏ الكامل ‏"‏ نبأ أتى من أعظم الأنباء لما ألم مقلقل الأحشاء قالوا حبييب قد ثوى فأجبتهم ناشدتكم لا تجعلوه الطائي وكانت وفاته بالموصل في جمادى الأولى‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ السنة الرابعة من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين‏.‏

فيها كانت وقعة كبيرة بين بغا الكبير وبين بني نمير وكانوا قد أفسدوا الحجاز واليمامة بالغارات وحشدوا في ثلاثة آلاف راكب فالتقوا بأصحاب بغا فهزموهم‏.‏

وجعل بغا يناشدهم الرجوع إلى الطاعة وبات بإزائهم تلك الليلة ثم أصبحوا فالتقوا فانهزم أصحاب بغا ثانيًا فأيقن بغا بالهلاك‏.‏

وكان قد بعث مائتي فارس إلى جبل لبني نمير فبينما هو في الإشراف على التلف إذا بهم قد رجعوا يضربون الكوسات فقوي بأس بغا بهم وحملوا على بني نمير فهزموهم وركبوا أقفيتهم قتلًا وأسروا منهم ثمانمائة رجل فعاد بغا وقدم سامرا وبين يديه الأسرى‏.‏

وفيها مات خلق كثير بأرض الحجاز من العطش‏.‏

وفيها كانت الزلازل كثيرة بأرض الشأم وسقط بعض الدور بدمشق ومات جماعة تحت الردم‏.‏

وفيها ولى الواثق الأمير محمد بن إبراهيم بن مصعب بلاد فارس‏.‏

وفيها توفي أمير المؤمنين أبو جعفر هارون الواثق بالله ابن الخليفة المعتصم محمد ابن الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة محمد المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي البغدادي العباسي بويع بالخلافة بعد موت أبيه محمد المعتصم في شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين وأمه أم ولد رومية تسمى قراطيس ومات في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة فكانت خلافته خمس سنين ونصفًا‏.‏

وتولى الخلافة من بعده أخوه المتوكل على الله جعفر وكان ملكًا مهيبًا كريمًا جليلًا أديبًا مليح الشعر إلا أنه كان مولعًا بالغناء والقينات‏.‏

قيل‏:‏ إن جارية غنته بشعر العرجي وهو‏:‏ ‏"‏ الكامل ‏"‏ أظلوم إن مصابكم رجلًا أهدى السلام تحية ظلم فمن الحاضرين من صوب نصب رجلًا ومنهم من قال‏:‏ صوابه رجل فقالت الجارية‏:‏ هكذا لقنني المازني‏.‏

فطلب المازني فلما مثل بين يدي الواثق قال‏:‏ من الرجل‏.‏

قال‏:‏ من بني مازن قال الواثق‏:‏ أي الموازن أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة قال‏:‏ مازن ربيعة فكلمه الواثق حينئذ بلغة قومه فقال‏:‏ با اسمك - لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميمًا - فكره المازني أن يواجهه بمكر فقال‏:‏ بكر يا أمير المؤمنين ففطن لها وأعجبته‏.‏

وقال له‏:‏ ما تقول في هذا البيت قال‏:‏ الوجه النصب لأن ‏"‏ مصابكم ‏"‏ مصدر بمعنى إصابتكم فأخذ اليزيدي يعارضه قال المازني‏:‏ هو بمنزلة إن ضربك زيدًا ظلم فالرجل مفعول مصابكم والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول‏:‏ ظلم فيتم فأعجب الواثق وأعطاه ألف دينار‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ كان الواثق أبيض تعلوه صفرة حسن اللحية في عينيه نكتة ‏"‏ بيضاء ‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ إن الواثق لما احتضر جعل يرفد هذين البيتين وهما‏:‏ ‏"‏ البسيط ‏"‏ الموت فيه جميع الخلق مشترك لا سوقة منهم يبقى ولا ملك ما ضر أهل قليل في تفاقرهم وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا ثم أمر بالبسط فطويت وألصق خده بالأرض وجعل يقول‏:‏ يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه يكررها إلى أن مات رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي علي بن المغيرة أبو الحسن الأثرم البغدادي الإمام البارع صاحب اللغة والنحو قدم الشأم ثم رجع إلى بغداد وسمع بها من الأصمعي وغيره ومات بها‏.‏

وفيها توفي محمد بن زياد أبو عبد الله بن الأعرابي كان أحد العلماء باللغة والمشار إليه فيها وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يعرفان من اللغة قليلًا ولا كثيرًا وسأله إمام المحنة أحمد بن أبي دواد‏:‏ أتعرف معنى ‏"‏ استولى ‏"‏ قال‏:‏ لا ولا تعرفه العرب لأنها لا تقول‏:‏ استولى فلان على شيء حتى يكون له فيه مضاد ومنازع فأيهما غلب استولى عليه والله تعالى لا ضد له وأنشد ‏"‏ قول ‏"‏ النابغة‏:‏ ‏"‏ البسيط ‏"‏ إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد وكان مع هذا خصيصًا عند المأمون‏.‏

وسأله مرة عن أحسن ما قيل في الشراب فقال‏:‏ قول القائل‏:‏ ‏"‏ الطويل ‏"‏ تريك القذى من دونها وهي دونه إذا ذاقها من ذاقها يتمطق فقال المأمون‏:‏ أشعر منه من قال‏:‏ ‏"‏ المديد ‏"‏ وتمشت في مفاصلهم كتمشي البرء في السقم يريد الحسن بن هانىء‏.‏

قلت‏:‏ هذا كان في تلك الأعصار الخالية وأما لو سمع المأمون بما وقع للمتأخرين في هذا المعنى وغيره لأضرب عن القولين ومال إلى ما سمع‏.‏

كم ترك الأول للآخر‏!‏‏.‏

وفيها توفي محمد بن عائذ أبو عبد الله الكاتب الدمشقي صاحب المغازي والفتوح والسير وغيرها‏.‏

ولد سنة خمسين ومائة وولي خراج غوطة دمشق للمأمون‏.‏

وكان عالمًا ثقة صاحب اطلاع مات في هذه السنة وقيل‏:‏ سنة أربع وثلاثين ومائتين‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي إبراهيم بن الحجاج السامي لا الشامي والحكم بن موسى القنطري الزاهد وجويرية بن أشرس وعبد الله بن عون الخراز وعلي بن المغيرة الأثرم اللغوي وعمرو بن محمد الناقد وعيسى بن سالم الشاشي وهارون الواثق بالله ويوسف بن عدي الكوفي‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعًا وستة عشر إصبعًا‏.‏

M0لية هرثمة بن نصر على مصر هو هرثمة بن نصر الجبلي‏:‏ من أهل الجبل ولي إمرة مصر بعد عزل عيسى بن منصور عنها في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ولاه الأمير إيتاخ التركي على إمرة مصر نيابة عنه على الصلاة‏.‏

ولما ولي هرثمة هذا أرسل إلى مصر علي بن مهرويه خليفة له على مصر وعلى صلاتها فناب علي بن مهرويه عنه حتى قدم هرثمة المذكور إلى مصر في يوم الأربعاء لست خلون من شهر رجب من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين‏.‏

وسكن بالعسكر على العادة وجعل على شرطته أبا قتيبة‏.‏

وفي أيام هرثمة هذا ورد كتاب الخليفة المتوكل إلى مصر بترك الجدال في القرآن واتباع وسببه أن الواثق كان قد تاب ورجع عن القول بخلق القرآن فأدركته المنية قبل إشاعة ذلك وتولى المتوكل الخلافة‏.‏

قال أبو بكر الخطيب‏:‏ كان أحمد بن أبي دواد قد استولى على الواثق وحمله على التشدد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن‏.‏

وقال عبيد الله بن يحيى‏:‏ حدثنا إبراهيم بن أسباط بن السكن قال‏:‏ حمل رجل فيمن حمل مكبل بالحديد من بلاده فأدخل فقال ابن أبي دواد‏:‏ تقول أو أقول قال‏:‏ هذا أول جوركم أخرجتم الناس من بلادهم ودعوتموهم إلى شيء ما قاله أحد لا بل أقول قال‏:‏ قل - والواثق جالس - فقال‏:‏ أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه أعلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يدع الناس إليه أم شيء لم يعلمه قال‏:‏ علمه قال‏:‏ فكان يسعه ألا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم‏!‏ فبهتوا‏.‏

قال‏:‏ فاستضحك الواثق وقام قابضًا على كمه ودخل بيتًا ومد رجليه وهو يقول‏:‏ شيء وسع النبي أن يسكت عنه ولا يسعنا فأمر أن يعطى الرجل ثلاثمائة دينار وأن يرد إلى بلده‏.‏

وعن طاهر بن خلف قال‏:‏ سمعت المهتدي بالله بن الواثق يقول‏:‏ كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلًا أحضرنا فأتي بشيخ مخضوب مقيد - كل هؤلاء يعنون بالشيخ أحمد بن حنبل رضي الله عنه - فقال أبي‏:‏ ائذنوا لابن أبي عواد وأصحابه وأدخل الشيخ فقال‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال‏:‏ لا سلم الله عليك فقال الشيخ‏:‏ بئس ما أدبك مؤدبك قال الله‏:‏ ‏"‏ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ‏"‏‏.‏

قال الذهبي‏:‏ هذه رواية منكرة رواتها مجاهيل لكن نسوقها بطريق جيد قال‏:‏ فقال ابن أبي دواد‏:‏ يا أمير المؤمنين الرجل متكلم فقال له‏:‏ كلمه فقال‏:‏ يا شيخ ما تقول في القرآن‏.‏

قال‏:‏ لم تنصفني ولي السؤال قال‏:‏ سل يا شيخ قال‏:‏ ما تقول في القرآن قال‏:‏ مخلوق قال‏:‏ هذا شيء علمه رسول الله وأبو بكر وعمر والخلفاء أم شيء لم يعلموه فقال‏:‏ شيء لم يعلموه فقال‏:‏ سبحان الله شيء لم يعلموه‏!‏ أعلمته أنت قال‏:‏ فخجل وقال‏:‏ أقلني قال‏:‏ والمسألة بحالها قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ما تقول في القرآن قال‏:‏ مخلوق قال‏:‏ شيء علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ابن أبي دواد‏:‏ علمه قال الشيخ‏:‏ علمه ولم يدع الناس إليه قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فوسعه ذلك قال‏:‏ نعم قال‏:‏ أفلا وسعك ما وسعه ووسع الخلفاء بعده قال‏:‏ فقام أبي ودخل الخلوة واستلقى وهو يقول‏:‏ شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه و سلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي علمته أنت‏!‏ سبحان الله‏!‏ علموه ولم يدعوا إليه الناس أفلا وسعك ما وسعهم‏!‏ ثم أمر برفع قيود الشيخ وأمر له بأربعمائة دينار وسقط من عينه ابن أبي دواد ولم يمتحن بعده أحدًا‏.‏

وقد روى نحوًا من هذه الواقعة أحمد بن السندي الحداد عن أحمد بن منيع عن صالح بن علي الهاشمي المنصوري عن الخليفة المهتدي بالله رحمه الله قال صالح‏:‏ حضرت وقد جلس للمتظلمين - يعني المهتدي بالله رحمه الله - فنظرت إلى القصص تقرأ عليه من أولها إلى آخرها فيأمر بالتوقيع عليها ويختمها فيسرني ذلك وجعلت أنظر إليه ففطن بي ونظر إلي فغضضت عنه حتى كان ذلك منه ومني مرارة فقال لي‏:‏ يا صالح في نفسك شيء تحب أن تقوله قلت‏:‏ نعم فلما انقضى المجلس أدخلت مجلسه فقال‏:‏ تقول ماذا في نفسك أو أقوله لك قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ما ترى قال‏:‏ أقول‏:‏ إنه قد استحسنت ما رأيت منا فقلت‏:‏ أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول‏:‏ القرآن مخلوق‏!‏ فورد على قلبي أمر عظيم ثم قلت‏:‏ يا نفس هل تموتين قبل أجلك‏!‏ فأطرق المهتدي ثم قال‏:‏ اسمع مني فوالله لتسمعن الحق فسرى في ذهني شيء فقلت‏:‏ ومن أولى بقول الحق منك وأنت خليفة رب العالمين وابن عم سيد المرسلين‏!‏ قال‏:‏ ما زلت أقول‏:‏ القرآن مخلوق صدرًا من أيام الواثق حتى أقدم شيخًا من أذنة فأدخل مقيدًا وهو جميل حسن الشيبة فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له فما زال يدنيه حتى قرب منه وجلس فقال له‏:‏ ناظر ابن أبي عواد فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه يضعف عن المناظرة فغضب وقال‏:‏ أبو عبد الله يضعف عن مناظرتك أنت‏.‏

قال‏:‏ هون عليك وأذن لي في مناظرته فقال‏:‏ ما دعوناك إلا لذلك فقال‏:‏ احفظ علي وعليه‏.‏

فقال‏:‏ يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه هي مقالة واجبة داخلة في عقد الذين فلا يكون الدين كاملًا حتى يقال فيه ما قلت‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أخبرني عن رسول الله‏!‏ حين بعثه الله هل ستر شيئًا مما أمر به قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فدعا إلى مقالتك هذه فسكت‏.‏

فقال الشيخ‏:‏ يا أمير المؤمنين واحدة فقال الواثق‏:‏ واحة‏.‏

فقال الشيخ‏:‏ أخبرني عن الله تعالى حين قال‏:‏ اليوم أكملت لكم دينكم‏!‏ أكان الله هو الصادق في إكمال دينه أم أنت الصادق في نقصانه حتى تقال مقالتك فسكت فقال الشيخ‏:‏ إثنتان قال الواثق‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ أخبرني عن مقالتك هذه أعلمها رسول الله صلى الله عليه و سلم أم جهلها قال‏:‏ علمها قال‏:‏ فدعا الناس إليها‏.‏

فسكت‏.‏

فقال الشيخ‏:‏ يا أمير المؤمنين ثلاث قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فاتسع لرسول الله صلى الله عليه و سلم إن علمها أن يمسك عنها ولم يطالب أفته بها‏.‏

قال‏:‏ نعم قال‏:‏ واتسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ذلك قال‏:‏ نعم فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد قدمت القول أن أحمد يصبو ويضعف عن المناظرة يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة كما زعم هذا أنه اتسع للنبي صلى الله عليه و سلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله عليك قال الواثق‏:‏ نعم كذا هو قطعوا قيد الشيخ فلما قطعوه ضرب الشيخ بيده إلى القيد فأخذه فقال الواثق‏:‏ لم أخذته قال‏:‏ إني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة فأقول‏:‏ يا رب لم قيدني وروع أهلي ثم بكى فبكى الواثق وبكينا‏.‏

ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وأمر له بصلة فقال‏:‏ لا حاجة لي بها‏.‏

قال المهتدي‏:‏ فرجعت عن هذه المقالة وأظن أن الواثق رجع عنها من يومئذ‏.‏

قلت‏:‏ ولما وقع ذلك كتب للأقطار برفع المحنة والسكوت عن هذه المقالة بالجملة وهدد كل من قال بها بالقتل‏.‏

وكان هرثمة هذا يحب السنة فأخذ في إظهار السنة والعمل بها وفرح الناس بذلك وتباشروا بولايته فلم تطل مدته على إمرة مصر بعد ذلك حتى مرض ومات بها في يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين واستخلف ابنه حاتم بن هرثمة على صلاة مصر‏.‏

وكانت ولاية هرثمة المذكور على مصر سنة واحدة وثلاثة أشهر وثمانية أيام‏.‏

وهذا ثاني هرثمة ولي إمرة مصر في الدولة العباسية فالأول هرثمة بن أعين ولاه الرشيد هارون على مصر سنة ثمان وسبعين ومائة والثاني هو هرثمة بن نصر هذا‏.‏

وكان هرثمة أميرًا جليلًا عاقلًا مدبرًا سيوسًا‏.‏

وتولى مصر من بعده ابنه حاتم بن هرثمة باستخلافه له فأقره الخليفة‏.‏